سورة الروم - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


{ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)} [الروم: 30/ 41- 45].
لقد عم البلاد في أرجاء البر والبحر ظهور الخلل والانحراف، وقلة النفع والمطر، وكثرة القحط والجدب أو التصحر، بسبب شؤم المعاصي وكثرة الذنوب، من الكفر والظلم وانتهاك المحرّمات، والتجرؤ على الإنسان، بعد انتشار الأمن وعموم الخير والرخاء، وذلك ليذيقهم الله جزاء بعض أعمالهم وسوء أفعالهم من المعاصي والآثام واحتجاب الخير وظهور الشر، وفي ذلك منفعة للناس، لأنه ربما يرجعون عن غيهم ومعاصيهم، كما جاء في آية أخرى: {وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 7/ 168].
ثم أراد الله لفت نظر الناس والاتعاظ بمصائر الماضين المفسدين، فقل أيها الرسول للمفسدين والمشركين، تقلبوا في البلاد، وتأملوا بمصير من قبلكم، وكيف أهلك الله الأمم السابقة، وأذاقهم سوء العذاب، بسبب كفرهم وقبح أعمالهم، حيث كان أكثرهم مشركين بالله شركا ظاهرا لا خفاء فيه.
وبادر أيها النبي- باعتبارك قدوة الأمة، ومن تبعك من أهل الإيمان إلى الاستقامة على طاعة الله، وفعل الخير، ووجّه نفسك كلها وبإخلاص للعمل بالدين القويم، وهو دين الإسلام، من قبل مجيء يوم القيامة الذي لا مرد ولا مانع منه، فلا بد من وقوعه، وفي ذلك اليوم يتفرق فيه الناس بحسب أعمالهم، ففريق في الجنة، وفريق في النار والسعير.
وجزاء كل فريق بحسب عمله، ممن كفر بالله وكتبه ورسله، وكذب باليوم الآخر، فعليه وبال كفره وكذبه، وإثمه ووزره، ومن آمن بالله وكتبه ورسله وباليوم الآخر، وعمل صالح الأعمال، فأطاع الله تعالى فيما أمر، وانتهى عما منعه الله عنه، فإنه يعدّ لنفسه المهاد المريح، والمرتع الخصب الفسيح، والمجال المطمئن. وقوله تعالى: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أي يوطّئون ويهيئون، وهي استعارة منقولة من الفرش ونحوها إلى الأحوال والمراتب.
وسبب التمييز في الجزاء: جزاء الباغي أو الظالم ببغيه وظلمه، وجزاء المؤمن المستقيم باستقامته، هو أن الله تعالى يريد إحقاق الحق وإقامة العدل، فيجازي المؤمنين الذين يعملون الصالحات تفضلا منه وإحسانا بالنعيم المقيم، وجنان الخلد، وفضل الله شامل، وعطاؤه كبير. وأما الكافرون فإن الله يبغضهم ويعاقبهم، عقاب حق وعدل لا جور فيه، وهذا تهديد ووعيد للكفار. وقوله تعالى: {لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ} ليس الحب بمعنى الإرادة والعاطفة، ولكن بمعنى: لا يظهر عليهم أمارات رحمته، ولا يرضاه لهم دينا.
إن تقسيم الفريقين إلى طائعين وعصاة يوم القيامة، كان بسبب أعمالهم في الدنيا، والدنيا مزرعة الآخرة، فهنيئا لمن وفق للعمل الصالح، والشقاء كل الشقاء لمن انحرف وجحد.
آيات قدرة الله ووحدانيته:
عجبا لأمر الناس مع ربهم، ينعم عليهم بشتى النعم ويخلقهم ويرزقهم، ثم لا يهتدون إليه بمحض عقولهم، وسلامة تفكيرهم، حتى إنه سبحانه احتاج إلى إقناعهم بوجوده ووحدانيته، وأقام الأدلة الكثيرة من المحسوسات المشاهدة على ذلك، مما لا يدع أي مجال للشك في هذا، وما أجمل الآيات القرآنية المسوقة من مشاهد الكون على إثبات القدرة الإلهية، فإن كل إنسان يحسّ بالتفاعل مع الموجودات حوله، ويدرك إدراكا تاما، جمال الكون وإبداعه، وما فيه من عجائب الخلق والإبداع الإلهي المرشد إلى المقصود، والدال على المعبود بحق، قال الله تعالى واصفا هذه المشاهد:


{وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)} [الروم: 30/ 46- 50].
هذه أدلة حسية تدل على قدرة الله وتوحيده، تقتضي كل عاقل متأمل بأن يدرك أنه لا مشاركة للأوثان فيها، وهي محض السلطان الإلهي، وأنه تعالى المهيمن على كل شيء في الوجود والمسيّر والمحرك له، وأول الأدلة: أن الله تعالى يرسل الرياح مبشرة بالخير ونزول المطر، الذي يحيي الأرض بعد يبسها، ويفيد الإنسان فائدة كبري، فيذيفه من آثار رحمته بالمطر، فيحيي العباد والأراضي، كما أنه سبحانه يرسل الرياح لتلقيح الأشجار، ولتسيير السفن الشراعية في البحار، ولتمكين المسافرين والتجار من ممارسة التجارة، وطلب الفضل الإلهي والمكاسب المشروعة ببذر بذور الأطعمة وغيرها، وليشكر الناس ربهم على ما أنعم به عليهم من النعم الكثيرة التي لا تحصى.
ثم آنس الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلّم بمثل من أرسل من الأنبياء السابقين، ثم وعده تعالى ووعد أمته بالنصر على الأعداء، إذ أخبر أنه جعله حقا عليه تبارك وتعالى. فتالله إن كذبك قومك يا محمد، فلست بأول مكذّب كذبه قومه، فلقد أرسل الله رسلا كثيرين إلى أقوامهم، فأقاموا الأدلة الواضحة على صدق رسالتهم، فكذبهم قومهم كما فعل قومك، فانتقم الله ممن كذبهم وعارضهم، ممن أجرم وجنى على نفسه ومجتمعة، وهذا هو الذي يحصل من كل مكذّب عاص، ونجى الله أهل الإيمان، وكان حقا مستحقا على الله تحقيق النصر للمؤمنين، العاملين بمقتضى إيمانهم.
أما كيفية إنزال الأمطار: فهي أن الله سبحانه يرسل الرياح على وفق إرادته ومشيئته وحكمته، فتحرك السحب أو الغيوم المنعقدة من ذرأت بخار الماء، فتنتشر في السماء كيف يشاء الله، ثم يجعلها قطعا متفرقة ذات أحجام مختلفة، خفيفة أو كثيفة مشبعة بالرطوبة، فترى أيها الناظر كيف يخرج المطر من وسط السحب ومن خلالها المختلفة، وإذا أصاب الله بها من يشاء من العباد إذا هم تغمرهم البهجة والفرحة، والاستبشار بالخير والنعمة السابغة.
وإن كان الناس من قبل نزول هذا المطر قانطين يائسين من نزوله، لتأخر المطر، وبطء نزول الغيث، فتغمرهم رحمات الله تعالى وأفضاله العديدة.
فانظر أيها الرسول ومن آمن برسالتك نظرة تأمل إلى آثار رحمة الله السابغة، كيف يحيي الأرض بالنبات والزرع والشجر والثمر والعشب بعد الجفاف، مما يدل على سعة رحمة الله وإحسانه.
إن الذي أنزل المطر وأنبت النبات قادر على إحياء الأموات، كإحياء الأراضي بعد يبسها بالخضرة، والله تعالى تام القدرة على كل شيء، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والبدء والإعادة سواء عنده. وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 36/ 78- 81].
جحود النعمة:
غريب أمر الإنسان، تراه مع غيره من الناس إذا قدّم له معروفا، أكبره وشكره، وتذلل بين يديه، ثم يحرص على رد الجميل ومكافأة المعروف إما بالهدية وإما بالثناء باللسان في المناسبات المختلفة على ملأ من الناس. لكن هذا الإنسان مع الأسف جحود للنعمة الإلهية، مع أنها أعظم وأدوم، وأبقى أثرا، ولا تحتاج إلا للإقرار بالنعمة والاعتراف بالمنعم وهو الله، وبمقابلة الفضل الإلهي بالإصغاء لأمر الله وطاعته، واجتناب نهيه ومعصيته، وفي الحالين من امتثال الأمر والبعد عن النهي، يعود أثر ذلك على الإنسان بالخير العميم والنفع التام، قال الله تعالى مبينا سوء حال الكافرين، وتنكرهم لفضل الله وإحسانه:


{وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)} [الروم: 30/ 51- 53].
أخبر الله تعالى في هذه الآيات عن سوء أحوال الكافرين، وتقلب ابن آدم في أنه بعد الاستبشار بالمطر، إذا بعث الله ريحا ضارة، فاصفرّ بها النبات، ظل يكفر قلقا منه، وقلة توكل على الله، وعدم تسليم لله عز وجل، والمعنى: تالله لئن بعثنا ريحا سامة، حارة أو باردة، على نبات أو زرع أو ثمر، فرأى الناس ذلك الزرع قد اصفر، ومال إلى الفساد بعد خضرته، لظلوا من بعد ذلك الفرح والبشر بالمطر، يجحدون نعم الله التي أنعم بها عليهم.
فلا تحزن أيها النبي على إعراض مشركي مكة وأمثالهم عن دعوتك، بعد إيراد أدلة القدرة الإلهية على البعث وعلى توحيد الله، فإنك لا تستطيع إفهام الموتى، أو إسماعهم سماع تدبر واتعاظ، ولا تقدر إسماع دعوتك أهل الصمم عن الحق، إذا أدبروا عنك ولم يقبلوا هدايتك، فإنهم أشبه بالموتى في القبور، وبفاقدي حاسة السمع من المعاقين، لسدّهم منافذ الهداية، وفقد الاستعداد لسماع كلمة الحق. وليس في مقدورك أيها النبي هداية أهل العمى عن رؤية الحق، والرد عن الضلالة، فإن الهداية إلى الله تعالى، وهو القادر على إسماع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء، وإنه تعالى يفعل ما يشاء، بهداية من يريد، وإضلال من يريد، وليس ذلك لأحد سواه.
وما أنت يا محمد بمسمع إسماعا ينفع ويجدي إلا من آمن بالله ربا، وبالقرآن إماما، وبآيات الله برهانا وحجة، وبتوجيهات الرب إلى أفضل المقاصد وأقوم الطرق، وهؤلاء المؤمنون على هذا النحو هم المسلمون، أي الخاضعون لله تعالى، المطيعون لكل ما أمر ونهى، السامعون إلى الحق سماع إعظام وإكبار، وامتثال واتباع.
ليس في قدرتك إذن يا محمد هداية أحد، ولا عليك أن تهدي أحدا، ما عليك إلا البلاغ المبين، وإبلاغ الدعوة إبلاغا حسنا بالحكمة والموعظة الحسنة.
وهذا كله من إبعاد السماع عن عقول الكفار وقلوبهم يقصد به اليأس من استجابتهم للإسلام والقرآن، بسبب موقفهم المعاند وآرائهم العنيدة، واستكبارهم عن الإذعان للحق. وهذا لا يعارض الثابت في السنة النبوية من سماع الموتى كلام الأحياء، والاستئناس بزوار القبور الذين يمتثلون الأوامر والآداب الإلهية، من غير تبرم ولا تسخط ولا معارضة للقضاء والقدر. فلقد أجمع السلف على هذا، وشرع السلام على الموتى، روى ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم: «ما من رجل يزور قبر أخيه، ويجلس عنده إلا استأنس به، وردّ عليه حتى يقوم».
وقد ثبت أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم زار قبور شهداء أحد، وسلّم عليهم، ودعا لهم بالعفو والعافية من البلاء والعذاب.
أطوار الحياة وأحوال البعث:
إن في إحياء الأرض بالأمطار بعد موتها أو يبسها، وفي أدوار خلق الإنسان التي يمر بها من الاجتنان، فالطفولة، فالكهولة، فالشيخوخة، لدلالة قاطعة، وعبرة واضحة على قدرة الله التامة، وعلمه المحيط بكل شيء، والمتصف بهذه القدرة التي لا يتصف بها سوى الله عز وجل قادر على إحياء الموتى وبعثهم من القبور، وإعادتهم للحساب والجزاء، والاصطدام بالحقيقة الكبرى القاطعة، وهي أن الدنيا مثل الساعة التي تمضي، وأن الآخرة دار الخلود والبقاء، وأن الإنسان مغرور مفتون، قاصر النظر حين يستغني بالدنيا الفانية عن الآخرة الخالدة الباقية، وحينئذ لا ينفع الندم، ولا نجاة لمن ظلم، قال الله تعالى موضحا هذه الأحوال:

1 | 2 | 3 | 4 | 5